فصل: ولاية أحمد باشا المعروف بكور وزير:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» (نسخة منقحة)



.ولاية أحمد باشا المعروف بكور وزير:

ووصل حضرة الجناب الأفخم أحمد باشا المعروف بكور وزير، وسبب تلقبه بذلك أنه كان بعينه بعض حول فطلع إلى ثغرسكندرية ووصلت السعاة ببشائر قدومه، فنزلت إليه الملاقاة وأرباب العكاكيز وأصحاب الخدم مثل كتخدا الجاويشية وأغات المتفرقة والترجمان وكاتب الحوالة وغيرهم وكان الكاشف بالبحيرة إذ ذاك حسن أغا كتخدا بك تابع عمر بك، وتوفي هناك، فأرسل عمر بك لكتخداه حسن أغا المذكور بان يستمر في المنصب عوضاً عن مخدومه المتوفى، حتى تتم السنة، وخرج عمر بك من مصر، وأستمر المذكور بالبحيرة إلى أن أحضر احمد باشا المذكور إلى إسكندرية فحضر إلأيه وتقيد بخدمته وجمع الخيول لركوب أغواته وأتباعه، والجمال لحمل أثقاله، وقدم له تقادم عمل له السماط بالمعدية حكم المعتاد، وعرفه حاله ووفاة أستاذه وخروج سيدهم من مصر، فخلع عليه الباشا صنجقية أستاذه وأعطاه بلاده من غير حلوان وذلك قبل وصول الملاقاة. ووصل خبر ذلك إلى مصر، فأرسل المتكلمون إلى كتخدا الجاويشية يقولون له أن المذكور رجل ضعيف ولا يليق بالصنجقية، فقالوا للباشا ذلك فأغتاظ فسكتوا، ووصل إلى رشيد وأجتمع هناك براغب باشا، وسافر في المركب التي حضر فيها أحمد باشا وحضر إلى مصر، وطلع بالموكب المعتاد إلى القلعة في غرة المحرم سنة 1162 وضربوا له المدافع والشنك من أبراج الينكجرية وعمل الديوان وخلع الخلع على الأمراء والاعيان والمشايخ، وخلصت رياسة مصر وأمارتها إلى إبراهيم جاويش ورضوان كتخدا، وقلد إبراهيم جاويش مملوكه علي أغا وهو الذي عرف بالغزاوي صنجقياً وكذلك حسين أغا، وهو الذي عرف بكشكش. وكذلك قلد رضوان كتخدا أحمد آغا خازنداره صنجقياً، فصار لكل واحد منهما ثلاثة صناجق هو عثمان وعلي وحسين الابراهيمية وإسمعيل وأحمد ومحمد الرضوانية. ثم أن إبراهيم جاويش عمل كتخدا الوقت ثلاثة أشهر وأنفصل عنها. وحضر عبد الرحمن كتخدا القازدغلي من الحجاز وعمل كتخدا الوقت بباب مستحفظان سنتين، وشرع في عمل الخيرات وبناء المساجد وأبطل الخمامير. وسيأتي تتمة ذلك في ترجمته سنة وفاته. وأقام أحمد باشا في ولاية مصر إلى عاشر شوال سنة 1163، وكان من أرباب الفضائل، وله رغبة في العلوم الرياضية، ولما وصل إلى مصر وأستقر بالقلعة وقابله صدور العلماء في ذلك الوقت، وهم الشيخ عبد الله الشبراوي شيخ الجامع الأزهر والشيخ سالم النفراوي والشيخ سليمان المنصوري فتكلم معهم وناقشهم وباحثهم، ثم تكلم معهم في الرياضيات فأحجموا وقالوا لا نعرف هذه العلوم فتعجب وسكت. وكان الشيخ عبد الله الشبراوي له وظيفة الخطابة بجامع السراية، ويطلع في كل يوم جمعة ويدخل عند الباشا ويتحدث معه ساعة، وربما تغدى معه، ثم يخرج إلى المسجد ويأتي إلى الباشا في خواصه فيخطب الشيخ ويدعو للسلطان وللباشا ويصلي بهم ويرجع الباشا إلى مجلسه وينزل الشيخ إلى داره. فطلع الشيخ على عادته في يوم الجمعة وأستأذن ودخل عن الباشا يحادثه، فقال له الباشا: المسموع عندنا بالديار الرومية أن مصر منبع الفضائل والعلوم وكنت في غاية الشوق إلى المجيء إليها، فلما جئتها وجدتها كما قيل تسمع معدن العلوم والمعارف. فقال: وأين هي وأتنم أعظم علمائها وقد سألتكم عن مطلوبي من العلوم فلم أجد عندكم منها شيئاً، وغاية تحصيلكم الفقه والمعقول والوسائل، ونبذتم المقاصد. فقال له نحن لسنا أعظم علمائها وأنما نحن المتصدرون لخدمتهم وقضاء حوائجهم عند أرباب الدولة والحكام، وغالب أهل الأزهر لا يشتغلون بشيء من العلوم الرياضية إلا بقدر الحاجة الموصلة إلى علم الفرائض والمواريث، كعلم الحساب والغبار. فقال له: وعلم الوقت كذلك من العلوم الشرعية بل هو من شروط صحة العبادة، كالعلم بدخول الوقت وأستقبال القبلة وأوقات الصوم والأهلة وغير ذلك. فقام: نعم مرفة ذلك من فروض الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وهذه العلوم تحتاج إلى لوازم وشروط وآلات وصناعات وأمور ذوقية، كرقة الطبيعة حسن الوضع والخط والرسم والتشكيل والامور العطاردية وأهل الأزهر بخلاف ذلك غالبهم فقراء وأخلاط مجتمعة من القرى والآفاق فيندر فيهم القابلية لذلك. فقال: وأين البعض؟ فقال: موجودون في بيوتهم يسعى إليهم. ثم أخبره عن الشيخ الوالد وعرفه عنه وأطنب في ذكره فقال: التمس منكم أرساله عندي. فقال: يا مولانا أنه عظيم القدر وليس هو تحت أمري. فقال: وكيف الطريق إلى حضوره. قال: تكتبون له ارسالية مع بعض خواصكم فلا يسعه الأمتناع. ففعل ذلك وطلع إليه ولبى دعوته وسر برؤياه وأغتبط به كثيراً. وكان يترد إليه يومين في الجمعة وهما السبت والأربعاء، وأدرك منه مأموله وواصله بالبر والأكرام الزائد الكثير، ولازم المطالعة عليه مدة ولايته. وكان يقول: لو لم أغنم من مصر إلا أجتماعي بهذا الأستاذ لكفاني. ومما أتفق له لما طالع ربع الدستور وأتقنه، طالع بعده ((وسيلة الطلاب في استخراج الأعمال بالحساب))، وهو مؤلف دفيق للعلامة المارديني، فكان الباشا يختلي بنفسه ويستخرج منه ما يستخرجه بالطرق الحسابية ثم يستخرجه من النجيب، فيجده مطابقاً. فاتفق له عدم المطابقة في مسألة من المسائل فاشتغل ذهنه وتحير فكره إلى أن حضر إليه الأستاذ في الميعاد، فأطلعة على ذلك وعن السبب في عدم المطابقة، فكشف له علة ذلك بديها. فلما أنجلى وجهها على مرآه عقله كاد يطير فرحاً وحلف أن يقبل يده ثم أحضر له فروة من ملبوسه السمور باعها المرحوم بثمانمائة دينار. ثم أشتغل عليه برسم المزاول والمنحرفات حتى أتقنها ورسم على اسمه عدة منحرفات على ألواح كبيرة من الرخام صناعة وحفراً بالأزمير كتابة ورسماً. مري. فقال: وكيف الطريق إلى حضوره. قال: تكتبون له ارسالية مع بعض خواصكم فلا يسعه الأمتناع. ففعل ذلك وطلع إليه ولبى دعوته وسر برؤياه وأغتبط به كثيراً. وكان يترد إليه يومين في الجمعة وهما السبت والأربعاء، وأدرك منه مأموله وواصله بالبر والأكرام الزائد الكثير، ولازم المطالعة عليه مدة ولايته. وكان يقول: لو لم أغنم من مصر إلا أجتماعي بهذا الأستاذ لكفاني. ومما أتفق له لما طالع ربع الدستور وأتقنه، طالع بعده ((وسيلة الطلاب في استخراج الأعمال بالحساب))، وهو مؤلف دفيق للعلامة المارديني، فكان الباشا يختلي بنفسه ويستخرج منه ما يستخرجه بالطرق الحسابية ثم يستخرجه من النجيب، فيجده مطابقاً. فاتفق له عدم المطابقة في مسألة من المسائل فاشتغل ذهنه وتحير فكره إلى أن حضر إليه الأستاذ في الميعاد، فأطلعة على ذلك وعن السبب في عدم المطابقة، فكشف له علة ذلك بديها. فلما أنجلى وجهها على مرآه عقله كاد يطير فرحاً وحلف أن يقبل يده ثم أحضر له فروة من ملبوسه السمور باعها المرحوم بثمانمائة دينار. ثم أشتغل عليه برسم المزاول والمنحرفات حتى أتقنها ورسم على اسمه عدة منحرفات على ألواح كبيرة من الرخام صناعة وحفراً بالأزمير كتابة ورسماً.

.ولاية عبد الله باشا:

وصل الخبر بولاية الشريف عبد الله باشا ووصل إلى إسكندرية، ونزل أحمد باشا إلى بيت البيرقدار وسافرت الملاقاة للباشا الجديد، ثم وصل إلى مصر في شهر رمضان سنة 1164 وطلع إلى القلعة، فأقام في ولاية مصر إلى سنة 1166ثم عزل عن مصر وولي حلب، فنزل إلى القصر بقبة العزب وهاداه الأمراء، ثم سافر إلى منصبه. ووصل محمد باشا أمين فطلع إلى القلعة وهو منحرف المزاج فأقام في الولاية نحو شهرين وتوفي في خامس شهر شوال سنة 1166ودفن بجوار قبة الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه.

.قصد نصارى القبط الحج إلى بيت المقدس:

وفي هذا التاريخ أحضر بطرك الأروام مرسوما سلطانيا بمنع طائفة النصارى الشوام من دخولهم كنائس الإفرنج، وأن دخلوا فأنهم يدفعون للدولة ألف كيس، فأرسل إبراهيم كتخدا فأخذ أربعة قسوس من دير الإفرنج وحبسهم، وأخذ منهم مبلغاً عظيماً من المال. وأستمر نصارة الشوام يدخلون كنائس الأفرانج ولعلها من تحيلات إبراهيم كتخدا.
ومن الحوادث أيضاً في نحو هذا التاريخ أن نصارى الأقباط قصدوا الحج إلى بيت المقدس وكان كبيرهم إذ ذلك نوروز كاتب رضوان كتخدا، فكلم الشيخ عبد الله الشبراوي في ذلك وقدم له هدية وألف دينار، فكتب له فتوى وجوابا ملخصه أن أهل الذمة لا يمنعون من دياناتهم وزياراتهم. فلما تم لهم ما أرادوا شرعوا في قضاء أشغالهم وتشهيل إغراضهم، وخرجوا في هيئة وأبها وأحمال ومواهي وتختروانات فيها نساؤهم وأولادهم ومعهم طبول وزمور، ونصبوا لهم عرضياً عند قبة العزب، وأحضروا العربان ليسيروا في خفارتهم، وأعطوهم أموالاً وخلعاً وكساوي وأنعامات. وشاع أمر هذه القضية في البلد واستنكرها الناس فحضر الشيخ عبد الله الشبراوي إلى بيت الشيخ البكري كعادته وكان علي أفندي أخو سيدي بكري متمرضاً فدخل إليه بعوده، فقال له: أي شيء هذا الحال يا شيخ الإسلام على سبيل التبكيت، كيف ترضى وتفتي النصارة وتأذن لهم بهذه الأفعال لكونهم رشوك وهادوك. فقال: لم يكن ذلك. قال: بل رشوك بألف دينار وهدية وعلى هذا تصير لهم سنة ويخرجون في العام القابل بأزيد من ذلك ويصنعون لهم محملاً ويقال حج النصارى، وحج المسلمين وتصير سنة عليك، وزرها إلى يوم القيامة. فقام الشيخ وخرج من عنده مغتاظاً وأذن للعامة في الخروج عليهم ونهب ما معهم، وخرج كذلك معهم طائفة من مجاوري الأزهر، فأجتمعوا عليهم ورجموهم وضربوهم بالعصي والمساوق، ونهبوا ما معهم وجرسوهم ونهبوا أيضاً الكنيسة القريبة من دمرداش، وأنعكس النصارى في هذه الحادثة عكسة بليغة وراحت عليهم وذهب ما صرفوه وانفقوه في الهباء.

.ولاية مصطفى باشا وعزله وولاية علي باشا أوغلي الثانية:

وحضر مصطفى باشا وطلع إلى القلعة ثالث عشر ربيع الأول 1167 وأستمر والياً على مصر إلى أن ورد الخبر بعزله في أوائل شهر ربيع الأول سنة 1169 وولاية حضرة الوزير المكرم علي باشا حكيم أوغلي وهي ولايته الثانية. وطلع إلى سكندرية، ونزلت إليه الملاقاة وأرباب المناصب والعكاكيز. ثم حضر إلى مصر وطلع إلى القلعة يوم الأثنين غرة شهر جمادى الأولى من السنة المذكورة، وسار في مصر سيرته المعهودة وسلك طريقته المشكورة المحمودة، فأحيا مكارم الأخلاق وأدر على رعيته الأرزاق، بحلم وبشر ربي عليهما فكانا له طبعاً وصدر رحب لا يضيق بنازله ذرعاً. واستمر في ولاية مصر إلى شهر رجب سنة 1171.

.ذكر من مات في هذه الأعوام من العلماء والأعيان:

مات العلامة شيخ المشايخ شمس الدين الشيخ محمد القليني الأزهري وكان له كرامات مشهورة ومآثر مذكورة، منها أنه كان ينفق من الغيب لأنه لم يكن له أيراد ولا ملك ولا وظيفة، ولا يتناول من أحد شيئاً وينفق أنفاق من لا يخشى الفقر وإذا مشى في السوق تعلق به الفقراء فيعطيهم الذهب والفضة وإذا دخل الحمام دفع الآجرة عن كل من فيه. توفي سنة 1164.
ومات الشيخ الإمام الفقيه المحدث المسند محمد بن أحمد بن يحيى بن حجازي العشماوي الشافعي الأزهري، تفقه على الشيخ عبده الديوي والشهاب أحمد بن عمر الديربي وسمع الحديث على الزرقاني وبعد وفاته أخذ الكتب الستة عن تلميذه الشهاب أحمد بن عبد اللطيف المنزلي، وانفرد بعلو الأسناد وأخذ عنه غالب فضلاء العصر، توفي يوم الأربعاء ثاني عشري جمادى الأولى سنة 1167 ودفي بتربة المجاورين.
ومات الشيخ الإمام العلامة سالم بن محمد النفراوي المالكي الأزهري المفتي الضرير، أخذ عن الشيخ العمدة أحمد النفراوي الفقه وأخذ الحديث عن الشيخ محمد الزرقاني والشيخ محمد بن علاء الدين البابلي ببيته بالازبكية والشبراملسي وغيرهم، وكان مشهوراً بمعرفة فروع المذهب وأستحضار الفروع الفقهية. وكانت حلقة درسه أعظم الحلق وعليه مهابة وجلالة. توفي يوم الخميس سادس عشر من شهر صفر سنة 1168.
ومات الشيخ الفقيه المفتي العلامة سليمان بن مصطفى بن عمر بن الولي العارف الشيخ محمد المنير المنصوري الحنفي أحد الصدور المشار إليهم، ولد سنة 1078 بالنقيطة إحدى قرى المنصورة، وقدم الأزهر فأخذ عن شيوخ المذهب كشاهين الأرمناوي وعبد الحي بن عبد الحق والشرنبلالي وأبي الحسن علي بن محمد العقدي وعمر الزهري وعثمان النحريري وقائد الأبياري شارح الكنز، فاتقن الأصول ومهر في الفروع ودارت عليه مشيخة الخنفية، ورغب الناس في فتاويه وكان جليل القدر عالي الذكر مسموع الكلمة مقبول الشفاعة. توفي سنة 1169.
ومات الشيخ الإمام الفاضل الصالح الشاعر الأديب عمر بن محمد بن عبد الله الحسيني الشنواني من ولد القطب شهاب الدين العراقي دفين شنوان، قرأ على أفاضل عصره وتكمل في الفنون وإلقى دروسا بالأزهر. توفي في رجب سنة1167.
ومات الأجل المكرم الحاج صالح الفلاح وهو أستاذ الأمراء المعروفين بمصر المشهورين بجماعة الفلاح وينسبون إلى القازدغلية. وكان متمولا ذا ثروة عظيمة وشيخ، وأصله غلام يتيم فلاح من قرية من قرى المنوفية، يقال لها الراهب. وكان خادماً لبعض أولاد شيخ البلد فانكسر عليه المال فرهن ولده عند الملتزم وهو علي كتخدا الحلفي ومعه صالح هذا وهما غلامان صغيران، فأقاما ببيت علي كتخدا حتى غلق أبوه ما عليه من المال واستلم ابنه ليرجع به إلى بلده، فامتنع صالح وألف المقام ببيت الملتزم وأستمر به يخدم مع صبيان الحريم، وكان نبيهاً خفيف الروح والحركة. ولم يزل يتنقل في الأطوار حتى صار من أرباب الأموال، وأشترى المماليك والعبيد والجواري ويزوجهم من بعضهم ويشتري لهم الدور والإيراد، ويدخلهم في الوجاقات والبلكات، بالمصانعات والرشوات لأرباب الحل والعقد والمتكلمين، وتنقلوا حتى تلبسوا بالمناصب الجليلة كتخدا آت واختيارية وأمراء طلخانات وجاويشية وأوده باشية وغير ذلك، حتى صار من مماليكه من يركب في العذارات فقط نحو المائة، وصار لهم بيوت وأتباع ومماليك وشهرة عظيمة بمصر، وكلمة نافذة وعزوة كبيرة. وكان يركب حماراً ويعتم عمة لطيفة على طربوش وخلفه خادمه، ومات في سن السبعين ولم يبق في فمه سن، وكان قال له صالح جلبي والحاج صالح، وبالجملة فكان من نوادر الزمن وكان يقرض إبراهيم كتخدا وأمراءه بالمائة كيس وأكثر، وكذلك غيرهم ويخرج الأموال بالربا والزيادة، وبذلك أنمحقت دولتهم وزالت نعمهم في أقرب وقت، وآل أمرهم إلى البوارهم وأولادهم وبواقيهم، لذهاب ما في أيديهم، وصاروا أتباعاً وأعواناً للامراء المتأخرين.
ومات الأمير إبراهيم كتخدا تابع سليمان كتخدا القازدغلي، وسليمان هذا تابع مصطفى كتخدا والد عبد الرحمن كتخدا المشهور، لبس الضلمة في سنة 1148 وعمل جاويشاً وطلع سر دار قطار في الحج في إمارة عثمان بك ذي الفقار سنة 1153. وفي تلك السنة أستوحش منه عثمان بك باطناً لأنه كان شديد المراس قوي الشكيمة، وبعد رجوعه من الحج في سنة 1152 نما ذكره وأنتشر صيته ولم يزل من حينئذ ينمو أمره وتزيد صولته وتنقذ كلمته، وكان ذا دهاء ومكر وتحيل ولين وقسوة وسماحة وسعة صدر وتؤدة وحزم وأقدام ونظر في العواقب. ولم يزل يدبر على عثمان بك وضم إليه كتخداه أحمد السكري ورضوان كتخدا الحلفي وخليل بك قطامش عمر بك بسبب منافسة معه على بلاد هوارة كما تقدم، حتى أوقع به على حين غفلة وخرج عثمان بك من مصر على الصورة المتقدمة فعند ذلك عظم شأنه وزادت سطوته وأستكثر من شراء المماليك، وقلد عثمان مملوكه الذي كان أغات متفرقة صنجقاً وهو أول صناجقه، وهو الذي عرف بالجرجاوي. ولما قتل خليل بك قطامش وعمر بك بلاط وعلي بك الدمياطي ومحمد بك في أيام راغب باشا بمغامرة حسين بك الخشاب، ثم حصلت أيضاً كائنة الخشاب وخروجه ومن معه من مصر، وزالت دولة القطامشة والدمايطة والخشابية، وعزلوا راغب باشا في أثناء ذلك، كما تقدم، فعند ذلك أنتهب رئاسة مصر وسيادتها للمترجم وقسيمه رضوان كتخدا الجلفي ونفذت كلمتهما وعلت سطوتهما على باقي الأمراء والاختيارية الموجودين بمصر وتقلد المترجم كتخدائية باب مستحفظان ثلاثة أشهر، ثم أنفصل عنها. وذلك كما يقال لأجل حرمة الوجاق وقلد مملوكيه عليا وحسيناً صنجقين وكذلك رضوان كتخدا، كما سبق وصار لكل واحد منهما ثلاثة صناجق. وأشتغل المترجم بالأحكام وقبض الأموال الميرية وصرفها في جهاتها، وكذلك العلوفات وغلال الأنبار ومهمات الحج والخزينة ولوازم الدولة والولاة، وقسيمه رضوان كتخدا مشتغل بلذاته ومنهمك على خلاعاته، ولا يتدخل في شيء مما ذكر، والمترجم يرسل له الأموال ويوالي بر الجميع ويراعي خواطرهم وينفذ أغراضهم، وعبد الرحمن كتخدا مشتغل بالعمائر وفعل الخيرات وبناء المساجد. وأستكثر المترجم من شراء المماليك وقلدهم الأمريات والمناصب وقلد إمارة الحج لمملوكه علي بك الكبير، وطلع بالحج ورجع سنة 1167. وفي تلك السنة نزل على الحجاج سيل عظيم بمنزلة ظهر الحمار، فأخذ معظم الحجاج بجمالهم وأحمالهم إلى البحر ولم يرجع من الحجاج إلا القليل. ومما يحكى عنه أنه رأى في منامه أن يديه مملوءتان عقارب، فقصها على الشيخ الشبراوي، فقال: هؤلاء مماليك يكونون مثل العقارب ويسري شرهم وفسادهم لجميع الناس. فإن العقرب لدغت النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فقال صلى الله عليه وسلم: «لعن الله العقرب، لا تدع نبياً ولا غيره إلا لدغته»، وكذا يكون مماليكك. وكان الأمر كذلك وليس للمترجم مآثر أخروية ولا أفعال خيرية يدخرها في ميعاده ونخفف عنه بها ظلم خلقه وعباده، بل كان معظم أجتهاده الحرص على الرياسة والإمارة عمر داره التي بخط قوصون بجوار دار رضوان كتخدا والدار التي بباب الخرق هي دار زوجته بنت البارودي والقصر المنسوب إليها أيضاً بمصر القديمة. والقصر الذي عند سبيل قيماز بالعادلية، وزوج الكثير من مماليكه نساء الأمراء الذين ماتوا وقتلوا وأسكنهم في بيوتهم وعمل وليمة لمصفي باشا وعزمه في بيته بحارة قوصون في سنة 1166، وقدم له تقادم وهدايا وأدرك المترجم من العز والعظمة ونفاذ الكلمة وحسن السياسة واستقرار الأمور ما لم يدركه غيره بمصر، ولم يزل في سيادته حتى ماب على فرشه في شهر صفر سنة 1168.
ومات بعده رضوان كتخدا الجلفي وهو مملوك علي كتخدا الجلفي تقلد كتخدائية باب عزبان بعد قتل أستاذه بعناية عثمان بك ذي الفقار كما تقدم، ولم يزل يراعي لعثمان بك حقه وجميله حتى أوقع بينهما إبراهيم كتخدا كما تقدم. ولما استقرت الأمور له ولقسيمه ترك له الرياسة في الأحكام وأعتكف المترجم على لذاته وفسوقه وخلاعاته ونزهاته، وأنشأ عدة قصور وأماكن بالغ في زخرفتها وتأنيقها وخصوصاً داره التي أنشأها على بركة الأزبكية وأصلها بيت الدادة الشرايبي، وهي التي على بابها العامودان الملتفان المعروفة عند أولاد البلد بثلاثة وليه، وعقد على مجالسها العالية قبابا عجيبة الصنعة منقوشة بالذهب المحلول واللازورد والزجاج الملون والألوان المفرحة والصنائع الدقيقة، ووسع قطعة الخليج بظاهر قنطرة الدكة بحيث جعلها بركة عظيمة وبنى عليها قصراً مطلاً عليها وعلى الخليج الناصري من الجهة الأخرى. وكذلك أنشأ في صدر البركة مجلساً خارجاً بعضه على عدة قناطر لطيفة وبعضه داخل الغيط المعروف بغيط المعدية وبوسطه بحيرة تمتلئ بالماء من أعلى ويصب منها إلى حوض من أسفل ويجري إلى البستان لسقي الأشجار. وبنى قصراً آخر بداخل البستان مطلاً على الخليج وعلى الأعلاق من ظاهره. فكان يتنقل في تلك القصور وخصوصاً في أيام النيل، ويتجاهر بالمعاصي والراح والوجوه الملاح وتبرج النساء ومخاليع أولاد البلد. وخرجوا عن الحد في تلك الأيام ومنع أصحاب الشرطة من التعرض للناس في أفاعيلهم. فكانت مصر في تلك الأيام مراتع غزلان ومواطن حور وولدان كأنما أهلها خلصوا من الحساب ورفع عنهم التكليف والخطاب. وهو الذي عمر باب القلعة الذي بالرميلة المعروف بباب العزب وعمل حوله هاتين البدنتين العظيمتين والزلاقة على هذه الصورة الموجودة الآن. وقصدته الشعراء ومدحوه بالقصائد والمقامات والتواشيخ وأعطاهم الجوائز السنية وداعب بعضهم بعضاً فكان يغري هذا بهذا ويضحك منهم ويباسطهم، وأتخذ له جلساء وندماء منهم الشيخ علي جبريل والسيد ليمان والسيد حمودة السدبدي والشيخ معروف والشيخ مصطفى اللقيمي الدمياطي صاحب المدامة الأرجوانية في المدائح الرضوانية ومحمد أفندي المدني. وأمتدحه العلامة الشيخ يوسف الحفني بقصائد طنانة وللشيخ عمار القروي فيه مقامة مدحا في المترجم ومداعبة للسيد حمودة السديدي المحلاوي. ولم يزل رضوان كتخدا وقسيمه على إمارة مصر ورئاستها حتى مات إبراهيم كتخدا كما تقدم، فتداعى بموته ركن المترجم ورفعت النيام رؤوسها وتحركت حفائظها ونفوسها، وظهر شأن عبد الرحمن كتخدا القازدغلي وراح سوق نفاقه، وأخذ يعضد مماليك إبراهيم كتخدا ويغريهم ويحرضهم على الجلفية لكونهم مواليه. فيخلص له بهم ملك مصر ويظن أنهم يراعون حق ولائه وسيادته جده، فكان الأمر عليه بخلاف ذلك كما ستراه، وهم كذلك ييظهرون له الأنقياد ويرجعون إلى رأيه ومشورته ليتم لهم به المراد. وكل من أمراء إبراهيم كتخدا متطلع للرياسة أيضاً بالبلدة أيضاً من الأكابر والاختيارية وأصحاب الوجاهة مثل حسن كتخدا أبي شنب وعلي كتخدا الخربطلي وحسن كتخدا الشعراوي وقرا حسن كتخدا وإسمعيل كتخدا التبانة وعثمان أغا الوكيل وإبراهيم كتخدا مناو وعلي أغا توكلي وعمر أغا متفرقة وعمر أفندي محرم اختيار جاويشان وخليل جاويش حيضان مصلي وخليل جاويش القازدغلي وبيت الهياتم وإبراهيم أغا بن الساعي وبيت درب الشمسي وعمر جاويش الداودية ومطفى أفندي الشريف اختيارية متفرقة وبيت بلغيه وبيت قصبة رضوان وبيت الفرح وهم كثيرون اختيارية وأوده باشيه ومنهم أحمد كتخدا وإسمعيل كتخدا وعلي كتخدا وذو الفقار جاويش وإسمعيل جاويش وغيرهم، فأخذ أتباع إبراهيم كتخدا يدبرون في أغتيال رضوان كتخدا وأزالته، وسعت فيهم عقارب الفتن فتنبه رضوان كتخدا لذلك فأتفق مع أغراضه ولمك القلعة والأبواب والمحمودية وجامع السلطان حسن وأجمع إليه كثير من أمرائه وغيرهم من أنضم إليهم وكاد يتم له الأمر، فسعى عبد الرحمن كتخدا والاختيارية في أجراء الصلح، وطلع بعضهم إلى رضوان نصحهم لأنه كان سليم الصدر ففرق الجمع ونزل إلى بيته الذي بقوصون فاغتنموا عند ذلك الفرصة وبيتوا أمرهم ليلاً وملكوا القلعة والأبواب والجهات والمترجم في غفلته آمن في بيته مطمئن من قبلهم ولا يدي ما خبئ له، فلم يشعر إلا وهم يضربون عليه بالمدافع وكان المزين يحلق له رأسه، فسقطت على داره الحلل فأمر بالاستعداد وطلب من يركن إليهم فلم يجد أحداً، وجدهم قد أخذوا حوله الطرق والنواحي، فحارب فيهم إلى قريب الظهر وخامر عليه أتباعه فضربه مملوكه صالح الصغير برصاصة من خلف الباب الموصل لبيت الراحة فأصابته في ساقه، وهرب مملوكه إلى الأخصام، وكانوا وعدوه بأمرية أن هو قتل سيده. فلما حضر إليهم وأخبرهم بما فعل أمر علي بك بقتله. ثم أمر رضوان بك بالخيول وركب في خاصته وخرج من نقب نقبه في ظهر البيت وتألم من الضربة لأنها كسرت عظم ساقه فسار إلى جهة البساتين وهو لا يصدق بالنجاة، فلم يتبعه أحد ونهبوا داره ثم ركب وسار إلى جهة الصعيد. فمات بشرق أولاد يحيى ودفن هناك. فكانت مدته بعد قسيمه قريباً من ستة أشهر. ولما مات تفرقت صناجقه ومماليكه في البلاد وسافر بعضهم إلى الحجاز من ناحية القصير، ثم ذهبوا من الحجاز إلى بغداد واستوطنوها وتناسلوا وماتوا وإنقضت دولتهما. فكانت مدتهما نحو سبع سنوات ومصر في تلك المدة هادية من الفتن والشرور والإقليم البحري والقبلي أمن وأمان والأسعار رخية والأحوال مرضية، واللحم الضاني المجروم من عظمه رطله بنصفين والجاموسي بنصف والسمن البقري عشرته بأربعين نصف فضة اللبن المنعاد كذلك والمكرر قنطاره بألف نصف والعسل القطر قنطاره بمائة وعشرين نصفاً واقل والرطل البن القهوة بأثني عشر نصفاً والتمر يجلب من الصعيد في المراكب الكبار ويصب على ساحل بولاق مثل عرم الغلال ويباع بالكيل والأردب والأرز أردبه بأربعمائة نصف والعسل النحل قنطاره بخمسمائة نصف وشمع العسل رطله بخمسة وعشرين نصفاً وشمع الدهن بأربعة أنصاف والفحم قنطاره بأربعين نصفا والبصل قنطاره بسبعة أنصاف وفسر على ذلك. يقول جامعه: أني أدركت بقايا تلك الأيام، وذلك أن مولدي كان في سنة 1167، ولما صرت في سن التمييز رأيت الأشياء على ما ذكر إلا قليلاً وكنت أسمع الناس يقولون الشيء الفلاني زاد سعره عما كان في سنة كذا، وذلك في مبادئ دولة إبراهيم كتخدا وحدوث الاختلال في الأمور، وكانت مصر إذ ذاك محاسنها باهرة وفضائلها ظاهرة ولأعدائها قاهرة، ويعيش رغداً بها الفقير وتتسع للجليل والحقير، وكان لأهل مصر سنن وطرائق في مكارم الأخلاق لا توجد في غيرهم. أن في كل بيت من بيوت جميع الأعيان مطبخين أحدهما أسفل رجالي، والثاني في الحريم. فيوضع في بيوت الأعيان السماط في وقتي العشاء والغداء مستطيلاً في المكان الخارج مبذولاً للناس، ويجلس بصدره أمير المجلس وحوله الضيفان، ومن دونهم مماليكه وأتباعه. ويقف الفراشون في وسطه يفرقون على الجالسين ويقربون إليهم ما بعد عنهم من القلايا والمحمرات، ولا يمنعون في وقت الطعام من يريد الدخول أصلاً ويرون أن ذلك من المعايب، حتى أن بعض ذوي الحاجات عند الأمراء إذا حجبهم الخدام أنتظروا وقت الطعام ودخلوا فلا يمنعهم الخدم في ذلك الوقت، فيدخل صاحب الحاجة ويأكل وينال غرضه من مخاطبة الأمير، لأنه إذا نظر على سماطه شخصاً لم يكن رآه قبل ذلك ولم يذهب بعد الطعام عرف أن له حاجة. فيطلبه ويسأله عن حاجته فيقضيها له، وأن كان محتاجا واساه بشيء. ولهم عادات وصدقات في أيام المواسم، مثل أيام أول رجب والمعراج ونصف شعبان وليالي رمضان والأعياد وعاشوراء والمولد الشريف، يطبخون فيها الأرز باللبن والزردة ويملأون من ذلك قصاعاً كثيرة ويفرقون منها على من يعرفونه من المحتاجين. ويجتمع في كل بيت الكثير من الفقراء، فيفرقون عليهم الخبز ويأكلون حتى يشبعوا من ذلك اللبن والزرده. ويعطونهم بعد ذلك دراهم ولهم غير ذلك صدفات وصلت لمن يلوذ فيهم، ويعرفون منه الأحتياج، وذلك خلاف ما يعمل ويفرق من الكعك المحشو بالسكر والعجمية والشريك على المدافن والترب في الجمع والمواسم. كذلك أهل القرى والأرياف فيهم من مكارم الأخلاق ما لا يوجد في غيرهم من أهل قرى الإقليم، فإن أقل ما فيهم إذا نزل به ضيف ولم لم يعرفه أجتهد وبادر بقراه في الحال وبذل وسعه في أكرامه وذبح له ذبيحة في العشاء، وذلك ما عدا مشايخ البلاد والمشاهير من كبار العرب والمقادم، فإن لهم مضايف واستعدادات للضيوف، ومن ينزل عليهم من السفار والأجناد. ولهم مساميح وآطيان في نظير ذلك خلفا عن سلف إلى غير ذلك مما يطول شرحه ويعسر أستقصاؤه. وبموت رضوان كتخدا لم يقم لوجاق العزب صولة. م لوجاق العزب صولة.
ومات الأجل المكرم والملاذ المفخم الخواجا الحاج أحمد بن محمد الشرايبي، وكان من أعيان التجار المشتهرين كأسلافه وبيتهم المشهور بالازبكية بيت المجد والفخر والعز، ومماليكهم وأولاد مماليكهم من أعيان مصر جربجية وأمراء، ومنهم يوسف بك الشرايبي. وكانوا في غاية من الغنى والرفاهية والنظام ومكارم الأخلاق والأحسان للخاص والعام ويتردد إلى منزلهم العلماء والفضلاء ومجالسهم مشحونة بكتب العلم النفيسة للأعارة والتغيير وأنتفاع الطلبة ولا يكتبون عليها وقفية ولا يدخلونها في مواريثهم، ويرغبون فيها ويشترونها بأغلى ثمن ويضعونها على الرفوف والخزائن والخورنقات، وفي مجالسهم جميعاً. فكل من دخل إلى بيتهم من أهل العلم إلى أي مكان يقصد الإعارة أو المراجعة وجد بغيته ومطلوبه في أي علم كان من العلوم، ولو لم يكن الطالب معروفاً ولا يمنعون من يأخذ الكتاب بتمامه، فإن رده في مكانه رده وأن لم يرده وأختص به أو باعه لا يسأل عنه، وربما بيع الكتاب عليهم واشتروه مراراً، ويعتذرون عن الجاني بضرورة الاحتياج، وخبزهم، وخبزهم وطعامهم مشهور بغاية الجودة والإتقان والكثرة وهو مبذول للقاصي والداني مع السعة والاستعداد، وجميعهم مالكيو المذهب على طريقة أسلافهم وأخلاقهم جميلة وأوضاعهم منزهة عن كل نقص ورذيلة. ومن أوضاعهم وطرائقهم أنهم لا يتزوجون إلا من بعضهم البعض ولا تخرج من بيتهم امرأة إلا للمقبرة فإذا عملوا عرسا أولموا الولائم وأطعموا الفقراء والقراء على نسق أعتادوه، وتنزل العروس من حريم أبيها إلى مكان زوجها بالنساء الخلس والمغاني والجنك تزفها ليلاً بالشموع، وباب البيت مقلوق عليهن، وذلك عندما يكون الرجال في صلاة العشاء بالمسجد الأزبكي المقابل لسكنهم، وبيتهم يشتمل على أثني عشر مسكنا، كل مسكن بيت متسع على حدته. وكان الأمراء بمصر يترددون إليهم كثيراً من غير سبق دعوة، وكان رضوان كتخدا يتفسح عند المترجم في كثير من الأوقات مع الكمال والاحتشام ولا يصحبه في ذلك المجلس إلا الطفاء من ندمائه، وإذا قصده الشعراء بمدح لا يأتونه في الغالب إلا في مجلسه لينالوا فضيلتين ويحرزوا جائزتين. وكان من سنتهم أنهم يجعلون عليهم كبيراً منهم وتحت يده الكاتب والمستوفي والجابي فيجمع لديه جميع الأيراد من الألتزام والعقار والجامكية ويسدد الميري، ويصرف لكل إنسان راتبه على قدر حاله وقانون أستحقاقه. وكذلك لوازم الكساوي للرجال والنساء في الشتاء والصيف، ومصروف الجيب في كل شهر، وعند تمام السنة يعمل الحساب ويجمع ما فضل عنده من المال، ويقسمه على كل فرد بقدر استحقاقه وطبقته. واستمروا على هذا الرسم والترتيب مدة مديدة فلما مات كبارهم وقع بينهم الاختلاف واقتسموا الإيراد وأختص كل فرد منهم بنصيبه يفعل به ما يشتهي. وتفرق الجمع وقلت البركة وأنعزل المحبون وصار كل حزب بما لديهم فرحون، وكان مسك ختامهم صديقنا وأخانا في اللوذعي الأريب والنادرة المفرد النجيب سيدي إبراهيم بن محمد بن الدادة الشرايبي الغزالي. كان رحمه الله تعالى ملكي الصفات بسام الثنايات عذع المورد رحيب النادي واسع الصدر للحاضر والبادي قطعنا معه أوقاتا كانت لعين الدهر قرة، وعلى مكتوب العمر عنوان المسرة. وما زال يشتري متاع الحياة بجوهر عمره النفيس، مواظباً على مذاكرة العلم وحضور التدريس، حتى كدر الموت ورده وبدد الدهر الحسود بنوائبه عقده كما يأتي تتمة ذلك في سنة وفاته وأنمحت بموته من بيتهم المآثر وتبدد بقية عقدهم المتناثر.
ومات أحمد جلبي ابن الأمير علي والأمير عثمان وتزوج مماليك القازدغلية نساءهم وسكنوا في بيتهم. ومنهم سليمان أغا صالح وتقلد الزعامة وصار بيتهم بيت الوالي وتوفي سنة 1171